 غلاف رواية «رادوبيس» للأديب الكبير نجيب محفوظ بالعربية والروسية
                    غلاف رواية «رادوبيس» للأديب الكبير نجيب محفوظ بالعربية والروسية
                «رادوبيس» هي ثاني أعمال نجيب محفوظ التاريخية بعد «عبث الأقدار». تحكي الرواية عن الغانية رادوبيس التي تأتي من الجنوب لتقيم في قصرها في جزيرة بيجه، رادوبيس ليست غانية عادية بل هي محط أنظار وإعجاب كل كبار الدولة من فنانين وفلاسفة وقادة الجيش والتجار، وكلهم يمطرونها بالهدايا طمعًا في رضاها، لكن في تلك الاثناء يواجه الفرعون الشاب مشاكل عديدة من غارات الحدود ومشاكله الخاصة مع الكهنة، إذ يريد نزع الأراضي من أيدي رجال الدين كي تتبع تلك الأراضي فرعون بدلًا من المعابد. وسط تلك القلاقل وغضب الشعب وحيرته يقع صندل رادوبيس بين يدي الفرعون الذي يتعجب من القدر ويبحث عن صاحبة هذا الصندل الذهبي ليقع في حبها وتبدأ قصة لا ترضي أحدًا.
تدور أحداث الرواية زمنيًا بين قدماء المصريين، وحبكتها بالذات في وقت صعب وهو تولي الفرعون الشاب منذ عدة أشهر، إنه وضع حساس؛ ما زال الشعب لم يتأقلم مع الفرعون الجديد وأوامره، كما أن الصدام مشتعل مع الكهنة حول الأراضي ومصيرها وتبادل اتهامات بينهما حول أنانية الفرعون أو لصوصية الكهنة، وهذا والمعارك قائمة على الحدود بالفعل لقهر المتسللين، لكن بين كل تلك الأحداث المشتعلة تنشأ قصة حب بين الفرعون وغانية متحجرة القلب. رغم كل هذه الأحداث تطغو قصة مشاعرهما فوق كل شيء. تبدو قصة حب عظيمة وقوية لكن أبطال الرواية أنفسهم لم يحبوها وكذلك القراء!
أحب بعض القراء المشاعر المباغتة والمشتعلة بين رادوبيس والفرعون، قصة الحب الرائعة تحفها المؤامرات والمخاطر وهو نوع محبب من الروايات لدى الكثيرين لكن الأغلبية لم ترها بهذا الشكل، لعدة أسباب قرأها العديدين كقصة حب مبتذلة، من نوع الشخص المهم الذي وقع في حب فتاة لا يجب أن يحبها وها نحن نشاهد تبعات هذا الاختيار الخاطئ، ومن قراءتي أجد أن هذا الرأي تكوَّن نتيجة عاملان هامان، أولها: طبيعة الشخصيات.
في الرواية نقرأ عن رادوبيس متحجرة القلب التي لا تحب أحدًا بل تتدلل لتحصل على ما تريد من الهدايا والنفوذ، حتى أنها تتلاعب بأحد كبار الدولة طاهو الذي تعلم أنه يحبها، تتلقى رادوبيس الكلمات من عشاقها بلا مبالاة وكبرياء وغرور وتطردهم من قصرها متى تشاء وهذه التقدمة لا تحمل أي ملامح طيبة على الإطلاق للقارئ كي يتفاعل معها، ولو أني أجدها ضرورية فكيف لامرأة أن تصل إلى قوة رادوبيس لو كانت تطيع عشاقها مثلًا، لم تكن لتتلقى نفس الاهتمام واللوعة بالطبع.
أما شخصية الفرعون فقد ظهر في الصفحات الأولى سريع الغضب، يأخذ قرارات متسرعة، ولا يبدو صراعه مع الكهنة على أراضي المعابد ذي ثقل أو أهمية، بل محاولة لبسط نفوذه وإثبات قوته وهو القرار الذي بدا غبيًا لأنه يتحدى سلطة مقدسة في مصر جنبًا إلى أن تلك الأراضي تنفق على الفقراء إذا فقد دخل الشعب أيضًا في الصراع والذي غالبًا ما يبقى خارجه.
رسم الشخصيتان الأولى لم يساعد في جعل القراء يتعاطفون معهم حتى إذا سلمنا بأن حبهما حقيقي فعلًا إلا أن هذا ينقلنا إلى العنصر الثاني، وهو: طبيعة الأحداث.
تواجه مصر خطرًا كبيرًا وهجمات حدودية لا تفيد معها الحملات الصغيرة لأن المهاجمين يحتمون بالصحراء بينما تنفد مؤن المصريين فيعودون كما جاءوا، وداخل مصر هناك ترقب المصرين لهذا الفرعون الشاب الجديد: هل سيقود مصر إلى نعم جديدة أم ستتلقى الهزيمة على يده، وهناك أيضًا الصراع بين الفرعون والكهنة وهذا كفيل أن يطرد السلام والهدوء حتى تحل الازمة.
لكن ما حدث هو أنه بين كل تلك الصراعات يترك الفرعون قصره والشخصيات الهامة التي تنتظره لتبلغه بمستجدات الحرب ويهيم باحثًا عن قصر الغانية!
لا تبدو فكرة حكيمة من فرعون يعتمد عليه الجميع.
وقد تكررت هذه الملاحظة في أغلب مراجعات القراء الروس ومنها:
«الفراعنة هم عمليا آلهة، لا يمكن للناس العاديين الوصول إليهم، عدى بالطبع زوجاتهم ومحظياتهم. وهنا يتجول الفرعون بمفرده حول المدينة ويعيش مع هذه الغانية. فلا عجب أنهم يريدون الإطاحة بمثل هذا الفرعون، وعلى الرغم من أن الصراع الرئيسي هو أنه لا يريد تقاسم السلطة والمال مع الكهنة، فإن تعايشه مع عاهرة وتناسي مهنتها وكل معجبيها بدافع الحب لا يجب إلا أن يؤدي إلى مأساة».
هذا التعليق لا يتحدث بالضبط عن كون رادوبيس عاهرة بل عن كونها عاهرة لأناس مهمين قادرين على التخطيط للمؤامرات والتلاعب بكل سهولة.
وهناك تعليق أخر يتناول علاقة الفرعون بزوجته:
«لا يستطيع الفرعون مقاومة غضبه بل ولا يريد ذلك. ليس لديه وقت لتولي العرش بدلا من ذلك يقضي وقته بين حريمه. وعندما يرى راقصة جميلة وفاتنة يهيم بها وينسى زوجته».
تلك الأفكار جعلت شخصية الزوجة بجانبهما الأفضل بالتأكيد.
علقت إحدى القارئات:
«مقارنة بهم تبدو زوجة الفرعون أكثر حكمة وأكثر مسؤولية. من المستحيل عدم احترام هذه المرأة التي يقودها عقلها مهما كان ذلك صعباً عليها. من الواضح أن تصرفات زوجها سببت لها ألمًا لا يطاق، ومع ذلك احتفظت بكرامتها ولم تستسلم لتأثير المشاعر».
إذا كانت شخصيات الرواية كلها رموز وليست رسما دقيقا وإنسانيا لشخص مثل فرعون متهور أو غانية جشعة فحينها تبدوا الرواية كلها بهذا الشكل لكن شخصية الزوجة الحليمة هدم الشخصيات الأخرى غير المفهومة.
....
ربما لم تكن ظروف قصة الحب في الرواية ما يلائم هوى القراء، لكن هناك أسباب أخرى لاحظتها السبب الثالث مثلًا غير متوقع، رغم أنني ظننت في البداية أن القراء سوف يحبون روايات نجيب التاريخية أكثر من رواياته الاجتماعية التي ربما يتفاعل معها العرب بشكل أفضل، فلم إذا لم يتفاعلوا مع بيئة قدماء المصريين، وكانت تلك هي الفكرة بالضبط ببحث سريع وجدت وفرة من قصص قدماء المصريين تملأ المواقع الروسية، قصص عديدة لنفرتيتي واخناتون وكليوبترا وهذا بسبب أن الروس يحبون الروايات التاريخية أو بمعني أصح ليست التاريخية، بل التي تقع في بيئة زمنية مختلفة باختلاف الوقائع التاريخية ولديهم تصنيف في كل مواقع الكتب يضم الخيال التاريخي الذي يصف البيئة والأجواء ويستخدمها ويعيد بناء الشخصيات بشكل خيالي تمامًا. وهذا التنصيف يشمل قصص قدماء المصريين والقصص التي تقع في العصور الوسطى وقصص روما القديمة وتعيد خلق القصص والحبكات العادية من حب ومشاكل في تلك العصور.
وبالطبع يمثل مناخ مصر القديمة موضوعًا شيقًا للقراء الروس الذين يقرأون قصص نفرتيتي وكليوبترا والملوك، هؤلاء الجالسون فوق العروش الذهبية ويبنون صروحًا ضخمة وطقوس الموت الفريدة التي يحظون بها، كل هذا ساهم في انتشار تلك القصص ولم ينتظر القراء الروس ترجمة الأعمال العربية التاريخية نفسها، بل عملت دور النشر على ترجمة اعمال المستشرقين من مختلف الجنسيات ومن احتكوا بمصر من علماء الأثار وكتبوا قصصًا عن أساطيرها.
مثلًا فإن الثلاثية التاريخية التي كتبها نجيب محفوظ (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة) وترجمت باسم (حكمة خوفو، فرعون والمحظية، الحرب في طيبة) وأيضًا تبعتهم رواية إخناتون «العائش في الحقيقة»، نشرتهم دار عالم الكتب في سلسلة سمتها «ليالي مصرية» وتضم تلك السلسلة أكثر من 18 عملًا أدبيًا تلعب مصر القديمة ساحتهم الرئيسية، لكن لا تضم القائمة مصريًا أو عربيًا سوى نجيب محفوظ، وباقي الأعمال بعضها مترجم مثل رواية الكاتب البريطانية جوان جرانت «الفرعون المجنح»، وبعض الأعمال كتبت بالروسية مثل «يوم الصبي المصري» لميليكا ماتيو (1899-1966) وهي عالم مصريات سوفيتية ومؤرخة كتبت عددًا من الكتب حول حياة المصريين القدماء، وهناك أيضًا أعمال الكاتبة الروسية فيرا كريزانوفسكايا (1861-1924) والتي تضم السلسلة أربعة أعمال لها عن مصر القديمة (تمثالان لابو الهول، المستشارة الحديدية لمصر القديمة، الملكة هاتاسو، الفرعون ميرنفيتا).

غلاف رواية كفاح طيبة (الحرب في طيبة) في سلسلة الليالي المصرية.
في إحدى المراجعات غير الراضية عن الرواية وجدت القراء ينصحون بعضهم البعض بأعمال لكتاب أخرين خارج السلسلة مثل أعمال جورج ايربس عالم المصريات الألماني والكاتب الأنجليزي بول دوجيرتي الذي كتب الكثير من الأعمال التاريخية، إذا يبدوا أن الروس متشبعون بقصص الفراعنة والاهرامات بالفعل التي أغرقهم بها المستشرقون والعلماء المفتونين بهذا التراث وكتبوا عنه كثيرا.. ربما هذا يعود إلى تخصص بعضهم في علم المصريات بالفعل هو ما يمكنهم من كتابة قصة مليئة بالتفاصيل بينما حتى الكاتب المصري العادي لا يكون غارقا في التفاصيل لهذه الدرجة ويستخدم هذا الزمن ساحة لحبكته لا لاستعراض معلوماته التاريخية، لكنها لازلت فكرة محزنة أن تكون هناك سلسلة تسمي الليالي المصرية لكن لا يشارك فيها سوي مصري واحد.
...
سبب أخر من أسباب نفور الروس من رواية رادوبيس هو -من رأى- كثرة الحوارات والتركيز على قصة الحب والصراعات بين الشخصيات، ما أدى إلى مشكلة الروس الحقيقية أنهم لم يشاهدوا تفاصيل مصر القديمة بما يكفي، كما ذكرت فموضوع الزمان المختلف جذاب جدا للروس ويفتح أفاقا واسعة لكنهم كانوا ينتظرون معرفة كل شيء عن هذا الزمان وهو ما لم يحدث فقد ركزت الحبكة على الفرعون وحده، بالتالي لم نرى عامة الناس وطريقة عيشهم وما يلبسون وباقي مظاهر المعيشة الأخرى.
كتب أحد القراء:
«يمكن نقل هذه القصة بسهولة إلى أي بلد وأي عصر تقريبًا - لا يوجد شيء مصري أيقوني فيها.. حاكم أصبح ضحية للعواطف، والخيانة في دائرته المقربة، ومؤامرات.. كم سيكون شيقًا أن تقرأ عن طقوس الاحتفال بعيد النيل، وزخرفة القصور، والملابس النسائية والرسومات عن حياة ذلك الوقت.. لن تجد شيئًا من هذا في كتاب محفوظ. عندما أقرأ عن العالم القديم أتوقع جوًا خاصًا، وتفاصيل متتابعة».
هذا في الغالب يعود إلى أن هذا العمل يختلف عن باقي الأعمال المقدمة للروس في سلسلة ليالي مصرية مثلا، كانت تلك ثاني رواية لنجيب محفوظ، بالطبع لم يهتم وقتها بفكرة تقديمها ك للقارئ الأجنبي، إذا يمكننا استنتاج أن تلك الرواية كتبت من أجل حبكتها وفكرتها واتخذت من ذلك الزمن مسرحا فقط لا أكثر، لكن لم يكن الهدف هو إبراز المسرح.. لكن على العكس كانت كتابات المستشرقين والروائيين هدفها الأصلي هو تلك التفاصيل الصغير للعبادات والحياة اليومية والملابس والمعابد والاهرامات والإله الذين لا يعرفونهم، هذان هدفان مختلفان للكتابة ومن الطبيعي أن يشعر القراء بالفرق بين كتب السلسلة الواحدة التي كان بعضها روائيا وبعضها مثل كتاب (يوم الصبي المصري) شبه تثقيفي في إطار أدبي حيث يحكي تحركات الأطفال المصريين ومعها وصف للبيوت والشوارع فهو لم يكن رواية ذات حبكة أدبية بل وعاء لحمل المعلومات.
...
لم تكن رواية رادوبيس أو فرعون والمحظية من الأعمال المشهور لنجيب محفوظ بين الروس لكن هناك أعمالًا تاريخية أخرى له حازت إعجابًا وشهرة لا بأس بها لأسباب –كما العادة- تختلف بين كل عمل وأخر.